الاثنين، 11 أغسطس 2008

الطريقة



الجدران اللينة وهي تتصاعد في صفوف حول أرواحنا
بنيناها بملامسة أكفنا للطوب..
باستمرار وقوفنا الحاسر عن ساقيه النحيلتين..
بالأصوات الخشنة حين نطلقها
كلاب حراسة تحوم في دوائر حولنا
تلك الجدران اكتفينا بأن نمسد ظهرها ونحن نرفع أعناقنا قليلاً ونتبادل التحية

ولأن ثغاءها استمر يعلو أثناء ذلك..
تم التفاهم حول أمورٍ كالعمل والزواج والموت
بومضات خاطفة..
هزة رأس، رفع للكتفين أو إشارة باليد
تكفي للتقدم.
الطريق المغلق ما تفحصناه منذ أن كان ..
أولينا عنايتنا بالطريقة التي تتسع لنا
.

سقاية السأم




سقاية السأم ساعة الجلوس في الركن
مع نظرات حادة توبخ الانتظار.
نظرٌ يشي بالانهماك في متابعة جلبة لا مرئية
تتصاعد في هواء الشارع،
التكرار المنتظم لتمرين الجفنين،
تحريك الرقبة والساقين بالتناوب.

أشياء كثيرة تحدث أيها الجهل
وأنت تعود بشكل ذبابة تروح وتجيء

أشياء كثيرة لم تحدث.

سطوع



العشوائية ليست كلمة مزدحمة
حتى تأتي قصة الاختناق هذه في مقدمة الراقصين
بملابس مبتلة وساقين طويلتين.

هي الزجاجة تشف عن كوكبها الأسود الصقيل برعونة،
الزجاجة التي نشرب سوائلها النيئة
كطريقة للتنفس وبناء الأعشاب.

هي الخفية..
عرفها ظمؤنا وتجشأتها قلوبنا،
الخفية التي لا يوقظها صداع الرأس
..الرياح لم تفُض صررها المعقودة في الحاجبين
..خفية
كمنابت الفتور.
الجمرة المخبوءة أسفل الظهيرة،
الوسواس المقلوب على ظهره والذي اعتدل حين أتى أناس كثيرون بأعمار وهيئات شتى..
أولئك
وهم يأخذون اسمي بين أيديهم ككتاب من الركض والعناق
ويتابعون الساقين البارعتين لراقصة في المقدمة
فيما أتابع التنقل معهم في غرف غريبة
وأيام تندفع من فوهة صنبور..
هي ..هذه المياه الكسيحة وهي تُنْبِتُ الأعشابَ،
هذا الشَعر وهو يتساقط،
هذا الألم وهو يأتي من جدران سميكة شاحذاً الزجاج
ليهبه اللمعة والسطوع.


أعشاب كل أرض



الأعشاب التي نمت بعد المطر ليس خطؤها أنها كبرت،
ازدحمت بفجاجة،
نمت سوقها على بعضها البعض..
امتصت مياهاً سرية،
جمعت الحصى، حفرت، نقلت المياه والركاب،
قادت الشاحنات، باعت عظامها،
احتالت ولبست كما يلبس الناس، بنت، اكترت،
أرسلت أبناءها للمدارس..
هذه الأعشاب وكما هي الأعشاب بعد المطر ظلت على حالها ففي حسبانها كل أرض تنبت العشب بعد المطر.


المياه التي لا تبين


لم تكن كذلك:
الغيمات الملونة التي ظننا أنها بيِّنة وجوهنا
..لقد تجرعناها كما يبتلع الشجر ريقه
وامتلأت سرائرنا بأهداب مسننة ترتخي على عصافير خضراء..
كففنا أكمام ثيابنا ليبرز ريشها،
فعلنا ذلك سنوات..
وحتى لو أصبحنا لا نتحرك بخفة
ظلت المياه الغزيرة تغمر رؤوس أفكارنا وتفيض:
في الارتباك والخطوة والانفراجة.
..واضحٌ أنها صارت مالحة وبالكاد تطبق عليها أكفنا القصيرة،
أن حجارة صقيلة مثلومة لم تعد تفسح لنا الطريق.
الواضح أيضاً أننا لم نكنز المياه التي لا تبين عنوة
ولم تكتنزنا عيون.

السبت، 9 أغسطس 2008

عائدة



الراعية التي تسوق غنمها على مهل وهي عائدة قبيل المغرب
بقربة شبه فارغة وعصا وكل ما يلزم لزي راعية عام (73هـ) ..في المشهد الذي سارع لالتقاطه تجار صورٍ جائلون
لم يصلهم ضيق الراعية من رائحة ملابسها،
تأففها.. ألم قدميها المشققتين وجوع بطنها..
أو أنهم قاموا بحذف هذه العناصر.

الراعية وقد تجولت لفترات مكتملة الصورة
فوق صمد (بن عجلان)
والصميدات*
تجول أحياناً في أذهان بقية البدو قطعان خواطرها الهزيلة
وهي عائدة دائماً.

الصَّمْد : المكان المرتفع ، الصميدات تصغيره.. وهما أسماء قديمة لمواضع.

الأحد، 3 أغسطس 2008

دون أن يعلم أحد






أشياء كثيرة تسير دون أن يعلم أحد
كما كانت الأمور بالنسبة للطفل المنغولي وقد صار رجلاً
لم يتحدد عمره بالضبط وظل يدبر نفسه بدراجة يستعيرها وحشائش وابتسامات.
اللواتي يمشين على أيديهن وأرجلهن
دون أن يعلم أحد موضع سكناهن،
(فالح) وهو يكتشف الأرق دون أن يعلم أحد
أنه بعدما جاوز التسعين صار يمشي طيلة الليل..
السيارات التي تجوب الشوارع وتبتاع أغرضها بسرعة
لا ينتبه لها أحد،
الشجرة التي لا يعلم أحد جنسها ولا من أتى بها للمقبرة.
المخارج السرية التي تسلكها الفتيات لمواعيد لا يعلم عنها أحد،
العبارات النابية على الجدران ولم يعرف من كتبها بعناية هكذا..
الذين يمسكون بأطراف ثياب أمهاتهم وهم يمصون أعواد الحلوى وقد صاروا نموراً تقتنص خطاة آخر الليل وتفرغ جيوبهم..
أولئك الذين لا يعلمون كم كانت أمهاتهم جميلات وحائرات
في بدء زواجهن.










مسارَّة



- تحتفظ بسر..
..لم َ هذا الانشراخ، التهلل المفاجئ..
الشرخ الوردي الذي مد ذراعيه الوديعتين ليحتضنني
من أين أتت مائة عين دافئة انطبقت عليّ بود الآن..
حين وجهكَ يبسط نجومه وطفولته
وأنت تنتظر أن أضعك في جوفي البائس
حين تتحدر فيه أشكال عجائبية وأيام سقطت أسنانها..


انتظر
قبل
أن
تقفز..




هل تريدني أن أتحدث دون مقدمات ..
أتظن أنك جمعت ثياب روحي المهلهلة في راحتيك،
أنها ستكون جديدة بعد قليل
بعدما أتحدث..
كل شئ قيل.
قل لي أنت: ماذا ترى؟






حسابات أمي وأبي





أمي جنية وأبي راعٍ عاد مع المغيب ليشهد حيتين تصطرعان
كادت إحداهما أن تقتل الأخرى قبل أن يقتلها أبي بحجرٍ أخفى كافة المشاهد السريعة بمجرد سقوطه.
ولأنه في خلاء لم يدهش أبي حين أيقظه من نومه شيخ لم يُر شبيهاً له في قبائل الساحل..

كان الشيخ جنياً مسلماً وكانت الحية البيضاء ابنته.
أبي كان توقعه لباقي القصة سليماً فقد كانت الحية التي قتلها جارية أرادت الغدر بسيدتها.
ولأنه اعتاد المقايضات فقد فغر رأسه حين سأله القادم: كيف أجزيك صنيعك؟

وهو لم يفرك عينيه بعد قال كلمات قلائل كعادته.. أبي:
ليس عندي زوجة.. أريد ابنتك.
والشيخ بعد أن أسقط في يده اشترط ألا ينهرها الزوج مهما فعلت فهي ترى مالا يراه وتسمع مالا يسمع..
وهي ستخرج من ذمته لو نهرها للمرة الثالثة كما هو معلوم.

حين دخلت أمي بملابس عروس بدوية قبل أربعمائة عام لم يتغير شئ في حياة أبي سوى إضافة زوجة إلى البيت
استدعت عزلته عن قبيلته لتجنب الأسئلة.

لم يغضب أبي في السنوات الأربع التالية سوى ثلاث مرات آخرهن حينما نحرت جمله المفضل لضيوفٍ
فات عليه أنه لم يرهم.
عندها جاء الجد ثانية من مكان غير بعيد كي يأخذ ابنته وأبناءها
كان حكمه واضحاً: سنتوجه شرقاً وسنبتعد، أنت ستقف قرب عمود خيمتك هذه
سنقطع ثلث المسافة معاً ثم يعود لك أحد أبناءك
إن لم تلتفت ناحيتنا
في كل نظرة ترفعها نحونا ستفقد واحداً منهم
..ودَّعه الجد بحكمة أخيرة: الأمر كله في عينيك
قد يعود الثلاثة كلهم لك.. وقد يصبحون منا.


البقية أن لا إخوة لي
كنت ابن الجنية والراعي
الراعي الذي لم يلتفت ناحيتي
لم ينخزه قلبه ليرفع رأسه تجاهي وأنا أعود له من هناك
من الجهة التي دفع لها أخوي وهو يظن أنه يشدهم ناحيته.


لم يلتفت نحوي أبي
ولم أحتضنه بعد
وإن شارف كلانا على المغيب.
المغيب الذي جمع الجنية والراعي
وأخرج ابنهما من حساباته.

بقع


التي ظلت تنجب أطفالاً موتى لفترة طويلة.
ظل زوجها يذهب بلفافات الأرواح البيضاء إلى المسجد
ثم يدفنهم بالمقبرة ويتلقى التعازي
لفترة أقل.
منذ المرة الثالثة كانت التي ظلت تنجب أطفالاً موتى
تدفن أطفالها في ذات المكان الذي اغتسلتُ فيه طفلاً
لم يلحظ الأنين ولا البقع غير المنتظمة في (صبة) الحمام..
كما لم يلحظها المستأجرون الجدد بعد ذلك.

فم المريض



فم المريض الذي ملأته الدمامل وبنت عليه الفطريات،
الذي يفتحه الآن وهو يظن أنه أمام طبيب
فيما يقعد أمام رحالة يعرف أجناس الإبل..
هو (البوادي) مقعية على أربع أسفل شارع (الثمانين) ..

هو ذاته الفم الذي تصطف في حنكيه بيوت متوالية
يتوسطها لسان أسود ينـز منه الماء الآسن،

هو ذاته الفم الذي يضحك ويمتلئ بالحكايا والشعوذات
التي لن تصل لعابر انفتح أمامه، لبرهة، شق الباب الأزرق
فولجه
كما ولج مصريون بملابس مرحة ووجوه ملطخة بالإسمنت مرتين (منتصف السبعينات وبداية التسعينات)
ولجه أفغانٌ بأرجل مقطوعة وعمائم لشجيرات بيضاء مقلوبة وعبروه وهم يجسون الشوارع
قبل أن يتحول الأوزبك لتجارة السجاد وآخرون بموازاتهم تحولوا إسكافيين.
ولجه يمنيون بأصوات حادة ونسوة وأطفال
ثم عبروه جميعاً
قبل أن يعود الرجال منفردين لطلاء الجدران الحديثة.
ولجه أريتري واحد هو وأطفاله الذين غبطناهم حينما عبر أبوهم محمولاً في نعش وصاروا أول أيتام الحارة.
ولجه صوماليون سمعنا أصواتهم خلفه حين كانوا يسددون بنادقهم في لفائف نقدية تشارك في الاقتتال..
ولجه تشاديون لم يخرجوا إلا في أوقات الصلاة
فيما شغلت تجارة الصحن رؤوس نسوتهم بشغف
وتفرق أبناءهم بيننا وبين بطون السيارات.
ولج منجمون وسحرة يربطون الأزواج ويعيدون الأشياء المسروقة إلى أصحابها بأمانة.

ولج برماويون لم يصبحوا أبناء بلد لفارق التوقيت
وانطلقوا منه بمطارق ومقصات..

الباب
الباب الأزرق
عبره باكستانيون بلا اكتراث ومضوا
بوجوه متجهمة تعالج الحديد والكهرباء
بينما تعثر أبناءهم عراة قبل معاودة اللعب..
ولجه بنغاليون واجتمعوا خلفه
حول جهاز (استيريو) جديد..


الباب
الباب الأزرق الجاهز والمستعد كل لحظة
الذي كان يبيعه محل على شارع (الستين)
واشترى منه كل القاطنين أبوابهم
تكفينا هذه السنوات لنحكم على نزاهته..
على أنه خفيف حقاً ومصنوع بإحكام
أما فم المريض فلم يوجد له بعد ما يمكننا الوثوق فيه
كباب مناسب.