
ربما يكون مقررا أن الشاعر المعاصر لم تعد تشده الموضوعات الكبرى , التي كانت تشد الشاعر في لحظات سابقة مثل الوطن والحب والوجود , وإنما أصبح الشاعر المعاصر ـ وشاعر قصيدة النثر علي وجه الخصوص ـ مرتبطا بالذات في تشظيها وانكسارها وآمالها وإحباطاتها,وفوق ذلك سنجد أن الشاعر المعاصر , لا يهتم بالذات في إطارها العام , وإنما يهتم بالجزئيات الخافتة , وكأن الاهتمام بهذه الجزئيات إعلاء لشأن الذات وإثبات لخصوصياتها وإدراكها المتميز , وهذا الإدراك المتميز هو الذي يصنع الفارق , ويجعل الشعور بالفن مختلفا من لحظة إلي آخري , فالشعرية ليست ساكنة , وإنما هي متحركة فهي تارة تسكن الموضوع والالتحام بالآخر , كما يمكن أن نجد لدي صلاح عبد الصبور , وتارة تسكن الهامش , بفجاجته , ولكن هذا الهامش حين يقدم شعريا , ومن وجهة نظر خاصة يصبح موضوعا شعريا بامتياز !....
والقارئ لديوان البوادي لعيد الخميسي , الذي ينطلق أساسا من الوعي الخاص بالمكان , ومن وجهة نظر لا يمكن الإمساك بها بسهولة , يدرك أن الديوان يحاول تشكيل عالم مندثر أو اندثر ,ولكن يعاد خلقه وتكوينه بهيئات مختلفة في كل مرة , فالتكوين أو الهدم لا يتم في الأماكن أو المباني , وإنما يتم من خلال البشر , واختلافهم من جنسية إلي جنسية , فكل جنسية لها سماتها الخاصة , ومن ثم تكوّن ـ في فترة ما ـ طبقة جيولوجية معينة , تخلق ذاكرة خاصة لها , والديوان ـ في إطار هذا التوجه ـ ليس إلا محاولة لبناء طبقات جيولوجية وثيقة الصلة بالمكان , وهذه الطبقة لها ذاكرة خاصة, والديوان يحاول استعادة هذه الطبقات وتثبيتها داخل المتلقي ,لكي يخلق روحا أو أفقا شعرية لهذا المكان , وكأن هذه الطبقات المتوالية علي المكان تؤثر في الآني وتحضر في القادم , يتجلي ذلك واضحا في قصيدة فم المريض :
هو ذاته الفم الذي يضحك ويمتلئ بالحكايا والشعوذات ...
التي لن تصل لعابر انفتح أمامه , لبرهة , شق الباب الأزرق
فولجه
كما ولج مصريون بملابس مرحة ووجوه ملطخة بالأسمنت مرتين
( منتصف السبعينات وبداية التسعينات)
ولجه أفغان بأرجل مقطوعة وعمائم لشجيرات بيضاء مقلوبة
وعبروه وهم يجسون الشوارع
المكان في النص الشعري , ليس مكانا أو حيا فقط , وإنما الذي يعطي هذه المكان وجهه الماضي والآني , هم البشر , الذي يصنعون للمكان ألقه وروحه ووجوده, ويقدمون له ذاكرة لصيقة بهم .
إن الحديث عن أفق الذات في الديوان يجب أن يكون حديثا ذا خصوصية , وذلك لأن الديوان ـ أو شعريته- اختطت من البداية أن تكون موضوعية حيادية قائمة علي الحكي والسرد والاستعادة,ومع ذلك فإن حضور الذات بشكل خاص يأتي واضحا في بعض القصائد , ففي قصيدة ( تخطيط ) :
في الرسم البدائي للبيوت
لا يمكنك أن تجمعها في إطلالة واحده :
أدوات العمل البالية هذه ,
الخطوات التي تبتعد ,
البيت ذو النافذة الخشبية والتي ما عادت تفتح.
..........الرسم البدائي للبيوت
لم يخف كثيرا
شخصية الفنان
نجد أن المتلقي لا يستطيع أن يصل إلي جمال هذه الطبقة من طبقات الحي بذاكرتها إلا إذا استعار عين المبدع , وأطل من خلالها , ومن خلال وجهة النظر التي تبدت فاعلة بشكل غير علني , وإنما تبدت من خلال التوقف عند بعض الجزئيات , التي يمكن أن يكون لها تأثير في محاولة اصطياد عبق غير واضح , فالرسم البدائي للبيوت لم يقض تماما علي شخصية الفنان. والبحث عن صوت الذات أو انحيازها غير الواضح في إطار هذا النسق الحيادي الموضوعي , يتطلب قراءة واعية للديوان بكامله , كما في قصيدة ( فم المريض ) , حين يصور النص الشعري الباب الأزرق , الذي أصبح علامة علي هذا الحي :
الباب الأزرق الجاهز والمستعد كل لحظة
الذي كان يبيعه محل علي شارع الستين
واشتري منه كل القاطنين أبوابهم
تكفينا هذه السنوات لنحكم علي نزاهته
علي أنه خفيف حقا ومصنوع بإحكام
أو يصور ذلك الترابط الحميم بين الإنسان والجدران في قصيدة ( الطريقة ) :
تلك الجدران
اكتفينا بأن نمسد ظهرها ونحن نرفع أعناقنا قليلا ونتبادل التحية
الخارج والداخل :
إن تشكيل حي البوادي في النص الشعري في هذا الديوان , من خلال تثبيته داخل وعي المتلقي تم من خلال نهجين مهمين , تم الاتكاء عليهما لتشكيل طبقاته الثلاث بمراحلها المخلفة , بداية من ( التكوين ) ,ومرورا بالإحساس بهذا التكوين ,وكأنه تجل أصبح ناجزا وجاهزا , وانتهاء بالمغايرة والاختلاف عن التكوين الأولي , فكل مرحلة من هذه المراحل شكلت طبقة خاصة بذاكرة خاصة .
أما النهج الأول , فالشاعر ـ من خلال سرد حيادي قائم علي الانتقاء ـ قدم صورة خارجية لهذا الحي , مرتبطة بأبنيته الشعبية والبدائية , وبأبوابه الزرقاء التي أصبحت ميزة كاشفة عنه , وتجلي ذلك في قصائد عديدة مثل ( أرض فضاء ) ,والعشب بأنواعه المختلفة كما في قصيدة ( غرفة بجدران بيضاء ) , أو الإشارة إلي التكوين البشري المتعدد في إطار التشابه والاختلاف من خلال العباءة , كما في قصيدة ( بلا عناء ) :
هذه العباءات التي لم تجتمع في مخيلة بائع
أو هفوة شارع مزدحم
ازدحمت هنا بلا عناء .
إن حركة المعني في النص الشعري السابق تأتي كاشفة عن طبيعة أصناف سكان الحي , وتوزع الأصناف إلي فئات عديدة , تختلف باختلاف العباءات , فهذا التوزع الكرنفالي يأتي ليكشف عن تعدد جنسي خاص , يشكل طبيعة هذا الحي , المشدود إلي التوحد والتفرد في آن .
وفي النهج الأخير نجد أن الشاعر في بعض القصائد يتوقف عند جزئيات ربما تكون كاشفة عن طبيعة هذا الحي من الداخل , مع الإلحاح علي أن الداخل والخارج لا ينفصلان , ولكن الفارق يكمن في وجود السارد الفعلي في النص وكونه مشاركا بالحضور الفاعل أو بالمراقبة الحيادية , ففي قصيدة ( حكاية قديمة ) , نجد أن السارد الراصد موجود ومشارك , ومع أن القصيدة تنتهج نسق التغييب, إلا أن المتلقي من خلال الوقوف عند بعض الجزئيات الموحية , يستطيع أن يلم بأطراف الحكاية , وتكون هذه الحكاية صورة خاصة للحي , وهذه القصيدة نموذج للشعرية التي تظهر بالرغم من محاولة التخفي أو التستر .
وهناك قصائد عديدة في إطار هذا المنحي الكاشف عن طبيعة البنية الداخلية لهذا الحي , مثل قصيدة ( بقع ) ,وهي قصيدة وإن كانت تكشف عن سلم تراتبي اجتماعي لسكان الحي , إلا أن أهميتها الكبرى ترتبط بفكرة الديوان الرئيسة المهمومة برصد ما لا يرصد أو تكديس ما لا يكدس , من خلال الاتكاء علي أن رصد الحاضر لا يمكن أن يتم إلا من خلال استحضار الماضي أو الوعي بالطبقة أو الذاكرة السابقة :
منذ المرة الثالثة التي ظلت تنجب أطفالا موتي
تدفن أطفالها في ذات المكان الذي اغتسلتُ فيه طفلا
لم يلحظ الأنين ولا البقع غير المنتظمة في صبة الحمام
كما لم يلحظها المستأجرون الجدد بعد ذلك
فالشاعر ـ في هذا النص الشعري ـ يؤكد علي أن المكان كإطار حاوٍ وجامع للبشر , يتأثر ويتغير سمته , بفعل البشر , فهذا الفعل المرتبط بدفن الأطفال في ( الطاقة ) وهي ظاهرة كانت موجودة في الريف قديما , وإن كانت تدل علي فعل تراتبي اجتماعي , موح إلي حد بعيد بقيمة المكان وطبقاته السابقة , التي تطل فاعلة في تشكيل واقعنا الآني .
السرد والحكي واستعادة الماضي :
عيد الخميسي من خلال ديوانه البوادي , استند إلي تقنيات عديدة , لكي يعيد تشكيل طبقات عديدة متوالية لهذا الحي , وهذه الطبقات في معرض دائم للتغير , فهذا الحي لا يظل علي وتيرة واحدة أو شكل ثابت .
وقد استند الشاعر إلي جزئية مهمة ترتبط بالبساطة , فالشاعر ـ علي سبيل المثال ـ لم يستخدم لغة شعرية استعارية بشكلها العلني المقرر مسبقا , وإنما استخدم لغة تنتهج البساطة سبيلا , وهذه اللغة تحتاج من المتلقي إلي إصغاء تام وإلي رصد يقترب من رصد عدسة الشاعر, حتي يدرك مواطن الجمال , وهذه البساطة اللغوية كان لها دور فاعل في إسدال نوع من الحميمية في رصد الأشياء , فالجمادات أو الأشياء المادية في هذا الديوان ليست جمادات أو أشياء مادية , وإنما ظهرت بوصفها كائنات حية لها حضور فاعل في تشكيل إحساس خاص بهذا الحي , بداية من أنواع النباتات أو الأعشاب , ومرورا بالأبواب والشبابيك وانتهاء بأسماء المواضع , فالمكان لا يمكن أن نأخذ صورة واضحة عنه إلا إذا أحسسنا بهذه الأشياء المادية دافقة في أركانه , وهذه الأشياء هي التي تعطيه سمته النهائي .
وارتباطا بهذه البساطة التي أشرنا إليها سابقا, سنجد أن شعرية الديوان تنتهج نسقا سرديا راصدا , واستخدام تقنيات السرد في إطار فن الشعر ليس شيئا سهلا ,كما يتصور البعض , فالشاعر الذي يعمد إلي ذلك مطالب أن يشعرك في كل لحظة بالشعر والنثر في آن , والشاعر الذي يستخدم آليات السرد في النص الشعري , وهي آليات لا تملك وجودا قائما بذاته , مطالب ـ أيضا ـ أن يكيف هذه الآليات حتي لا يشعر المتلقي بأن ما هو سردي قد أثر علي ما هو شعري , وحتي لا يكون هناك وقوع في قبضة الثنائية الفنية .
والديوان من بدايته إلي نهايته مملوء بالقصائد التي تشير إلي أن آليات السرد لها حضور واضح , مثل قصيدة ( أعمامي ونفر آخرون ) , و ( حكاية قديمة ) , و( وفم المريض ) , و( بقع ) , و( عائدة ) ..........
ولكن الشيء المهم في هذه القصائد ,يتمثل في أن آليات السرد المستخدمة في النص الشعري , لم تفض إلي ترهل بنائي يمكن الوقوف عنده , وإذا كان الشعر قد يستفيد من السرد التفصيلات المثيرة الحية , فإن الشاعر عيد الخميسي , قد عمد إلي اختيار اللقطة الكاشفة , بالإضافة إلي أن سرده لم يكن تتابعيا , ففي أغلب قصائده نجده يعتمد علي آليات تقطع خطية الزمن وتمدده المعهود , لأنه لا يهتم بخطية الزمن أو التمدد المعهود , وإنما ينصب اهتمامه الأساسي علي اختيار لقطة كاشفة تكون وثيقة الصلة بطبقة جيولوجية أو ذاكرة محددة لهذا الحي , ففي قصيدة ( راعية ) :
الراعية التي تسوق غنمها علي مهل وهي عائدة قبيل المغرب
بقربة شبه فارغة وعصا وكل ما يلزم لزى راعية عام 73 ه
في المشهد الذي سارع لالتقاطه تجار صور جائلون
لم يصلهم ضيق الراعية من رائحة ملابسها
تأففها ...ألم قدميها المشققتين وجوع بطنها
أو أنهم قاموا بحذف هذه العناصر
نجد أن المتلقي سوف يلاحظ للوهلة الأولي الإصرار علي تفصيلات حية , تأتي كاشفة عن طبيعة الصورة , وهناك تركيز علي تفاصيل بسيطة المقصود منها إكمال عناصر الصورة , ولكن المهم- في ذلك السياق ـ أن الشاعر لا يعتمد سردا تراتبيا , فهناك حالة من الارتداد والاستباق في آن , لتقديم عوالم مختلفة , فالراعية بلحظتها الآنية ليست منفصلة عن لحظات سابقة شكلت تأففها وألم قدميها وجوعها , وكذلك المصورون ـ بطبيعتهم ـ يختارون ما يناسبهم , فيحذفون ما يعكر صفاء النموذج أو جمال الأيقونة .
فاستخدام السرد في إطار النص الشعري , استخدام محسوب , مرتبط بقدرة الشاعر علي اختيار لقطة كاشفة , وارتباط هذا الاختيار بالتكثيف , حتي لا يكون هناك ترهل سردي,يقضي علي حرارة ما هو شعري ..
وإلحاح الشاعر ـ في هذا الديوان -علي استخدام لغة تتسم بالبساطة وآليات السرد , أثر بالضرورة علي الآليات الفنية , التي يقدم الشاعر من خلالها نصه الشعري , فليس هناك تعمد واضح لخرق نسق المواضعة اللغوية , ولا تقديم استعارات علنية , فالشعرية في هذا الديوان تعتمد علي التعبير البسيط الموحي , الذي يشكل ـ إن استحضره المتلقي ـ ميزة جمالية تقوم علي البساطة والتقرير بعيدا عن الجماليات المقررة والمؤسسة في شعريات كانت تمثل تجليات سابقة .
والقارئ لديوان البوادي لعيد الخميسي , الذي ينطلق أساسا من الوعي الخاص بالمكان , ومن وجهة نظر لا يمكن الإمساك بها بسهولة , يدرك أن الديوان يحاول تشكيل عالم مندثر أو اندثر ,ولكن يعاد خلقه وتكوينه بهيئات مختلفة في كل مرة , فالتكوين أو الهدم لا يتم في الأماكن أو المباني , وإنما يتم من خلال البشر , واختلافهم من جنسية إلي جنسية , فكل جنسية لها سماتها الخاصة , ومن ثم تكوّن ـ في فترة ما ـ طبقة جيولوجية معينة , تخلق ذاكرة خاصة لها , والديوان ـ في إطار هذا التوجه ـ ليس إلا محاولة لبناء طبقات جيولوجية وثيقة الصلة بالمكان , وهذه الطبقة لها ذاكرة خاصة, والديوان يحاول استعادة هذه الطبقات وتثبيتها داخل المتلقي ,لكي يخلق روحا أو أفقا شعرية لهذا المكان , وكأن هذه الطبقات المتوالية علي المكان تؤثر في الآني وتحضر في القادم , يتجلي ذلك واضحا في قصيدة فم المريض :
هو ذاته الفم الذي يضحك ويمتلئ بالحكايا والشعوذات ...
التي لن تصل لعابر انفتح أمامه , لبرهة , شق الباب الأزرق
فولجه
كما ولج مصريون بملابس مرحة ووجوه ملطخة بالأسمنت مرتين
( منتصف السبعينات وبداية التسعينات)
ولجه أفغان بأرجل مقطوعة وعمائم لشجيرات بيضاء مقلوبة
وعبروه وهم يجسون الشوارع
المكان في النص الشعري , ليس مكانا أو حيا فقط , وإنما الذي يعطي هذه المكان وجهه الماضي والآني , هم البشر , الذي يصنعون للمكان ألقه وروحه ووجوده, ويقدمون له ذاكرة لصيقة بهم .
إن الحديث عن أفق الذات في الديوان يجب أن يكون حديثا ذا خصوصية , وذلك لأن الديوان ـ أو شعريته- اختطت من البداية أن تكون موضوعية حيادية قائمة علي الحكي والسرد والاستعادة,ومع ذلك فإن حضور الذات بشكل خاص يأتي واضحا في بعض القصائد , ففي قصيدة ( تخطيط ) :
في الرسم البدائي للبيوت
لا يمكنك أن تجمعها في إطلالة واحده :
أدوات العمل البالية هذه ,
الخطوات التي تبتعد ,
البيت ذو النافذة الخشبية والتي ما عادت تفتح.
..........الرسم البدائي للبيوت
لم يخف كثيرا
شخصية الفنان
نجد أن المتلقي لا يستطيع أن يصل إلي جمال هذه الطبقة من طبقات الحي بذاكرتها إلا إذا استعار عين المبدع , وأطل من خلالها , ومن خلال وجهة النظر التي تبدت فاعلة بشكل غير علني , وإنما تبدت من خلال التوقف عند بعض الجزئيات , التي يمكن أن يكون لها تأثير في محاولة اصطياد عبق غير واضح , فالرسم البدائي للبيوت لم يقض تماما علي شخصية الفنان. والبحث عن صوت الذات أو انحيازها غير الواضح في إطار هذا النسق الحيادي الموضوعي , يتطلب قراءة واعية للديوان بكامله , كما في قصيدة ( فم المريض ) , حين يصور النص الشعري الباب الأزرق , الذي أصبح علامة علي هذا الحي :
الباب الأزرق الجاهز والمستعد كل لحظة
الذي كان يبيعه محل علي شارع الستين
واشتري منه كل القاطنين أبوابهم
تكفينا هذه السنوات لنحكم علي نزاهته
علي أنه خفيف حقا ومصنوع بإحكام
أو يصور ذلك الترابط الحميم بين الإنسان والجدران في قصيدة ( الطريقة ) :
تلك الجدران
اكتفينا بأن نمسد ظهرها ونحن نرفع أعناقنا قليلا ونتبادل التحية
الخارج والداخل :
إن تشكيل حي البوادي في النص الشعري في هذا الديوان , من خلال تثبيته داخل وعي المتلقي تم من خلال نهجين مهمين , تم الاتكاء عليهما لتشكيل طبقاته الثلاث بمراحلها المخلفة , بداية من ( التكوين ) ,ومرورا بالإحساس بهذا التكوين ,وكأنه تجل أصبح ناجزا وجاهزا , وانتهاء بالمغايرة والاختلاف عن التكوين الأولي , فكل مرحلة من هذه المراحل شكلت طبقة خاصة بذاكرة خاصة .
أما النهج الأول , فالشاعر ـ من خلال سرد حيادي قائم علي الانتقاء ـ قدم صورة خارجية لهذا الحي , مرتبطة بأبنيته الشعبية والبدائية , وبأبوابه الزرقاء التي أصبحت ميزة كاشفة عنه , وتجلي ذلك في قصائد عديدة مثل ( أرض فضاء ) ,والعشب بأنواعه المختلفة كما في قصيدة ( غرفة بجدران بيضاء ) , أو الإشارة إلي التكوين البشري المتعدد في إطار التشابه والاختلاف من خلال العباءة , كما في قصيدة ( بلا عناء ) :
هذه العباءات التي لم تجتمع في مخيلة بائع
أو هفوة شارع مزدحم
ازدحمت هنا بلا عناء .
إن حركة المعني في النص الشعري السابق تأتي كاشفة عن طبيعة أصناف سكان الحي , وتوزع الأصناف إلي فئات عديدة , تختلف باختلاف العباءات , فهذا التوزع الكرنفالي يأتي ليكشف عن تعدد جنسي خاص , يشكل طبيعة هذا الحي , المشدود إلي التوحد والتفرد في آن .
وفي النهج الأخير نجد أن الشاعر في بعض القصائد يتوقف عند جزئيات ربما تكون كاشفة عن طبيعة هذا الحي من الداخل , مع الإلحاح علي أن الداخل والخارج لا ينفصلان , ولكن الفارق يكمن في وجود السارد الفعلي في النص وكونه مشاركا بالحضور الفاعل أو بالمراقبة الحيادية , ففي قصيدة ( حكاية قديمة ) , نجد أن السارد الراصد موجود ومشارك , ومع أن القصيدة تنتهج نسق التغييب, إلا أن المتلقي من خلال الوقوف عند بعض الجزئيات الموحية , يستطيع أن يلم بأطراف الحكاية , وتكون هذه الحكاية صورة خاصة للحي , وهذه القصيدة نموذج للشعرية التي تظهر بالرغم من محاولة التخفي أو التستر .
وهناك قصائد عديدة في إطار هذا المنحي الكاشف عن طبيعة البنية الداخلية لهذا الحي , مثل قصيدة ( بقع ) ,وهي قصيدة وإن كانت تكشف عن سلم تراتبي اجتماعي لسكان الحي , إلا أن أهميتها الكبرى ترتبط بفكرة الديوان الرئيسة المهمومة برصد ما لا يرصد أو تكديس ما لا يكدس , من خلال الاتكاء علي أن رصد الحاضر لا يمكن أن يتم إلا من خلال استحضار الماضي أو الوعي بالطبقة أو الذاكرة السابقة :
منذ المرة الثالثة التي ظلت تنجب أطفالا موتي
تدفن أطفالها في ذات المكان الذي اغتسلتُ فيه طفلا
لم يلحظ الأنين ولا البقع غير المنتظمة في صبة الحمام
كما لم يلحظها المستأجرون الجدد بعد ذلك
فالشاعر ـ في هذا النص الشعري ـ يؤكد علي أن المكان كإطار حاوٍ وجامع للبشر , يتأثر ويتغير سمته , بفعل البشر , فهذا الفعل المرتبط بدفن الأطفال في ( الطاقة ) وهي ظاهرة كانت موجودة في الريف قديما , وإن كانت تدل علي فعل تراتبي اجتماعي , موح إلي حد بعيد بقيمة المكان وطبقاته السابقة , التي تطل فاعلة في تشكيل واقعنا الآني .
السرد والحكي واستعادة الماضي :
عيد الخميسي من خلال ديوانه البوادي , استند إلي تقنيات عديدة , لكي يعيد تشكيل طبقات عديدة متوالية لهذا الحي , وهذه الطبقات في معرض دائم للتغير , فهذا الحي لا يظل علي وتيرة واحدة أو شكل ثابت .
وقد استند الشاعر إلي جزئية مهمة ترتبط بالبساطة , فالشاعر ـ علي سبيل المثال ـ لم يستخدم لغة شعرية استعارية بشكلها العلني المقرر مسبقا , وإنما استخدم لغة تنتهج البساطة سبيلا , وهذه اللغة تحتاج من المتلقي إلي إصغاء تام وإلي رصد يقترب من رصد عدسة الشاعر, حتي يدرك مواطن الجمال , وهذه البساطة اللغوية كان لها دور فاعل في إسدال نوع من الحميمية في رصد الأشياء , فالجمادات أو الأشياء المادية في هذا الديوان ليست جمادات أو أشياء مادية , وإنما ظهرت بوصفها كائنات حية لها حضور فاعل في تشكيل إحساس خاص بهذا الحي , بداية من أنواع النباتات أو الأعشاب , ومرورا بالأبواب والشبابيك وانتهاء بأسماء المواضع , فالمكان لا يمكن أن نأخذ صورة واضحة عنه إلا إذا أحسسنا بهذه الأشياء المادية دافقة في أركانه , وهذه الأشياء هي التي تعطيه سمته النهائي .
وارتباطا بهذه البساطة التي أشرنا إليها سابقا, سنجد أن شعرية الديوان تنتهج نسقا سرديا راصدا , واستخدام تقنيات السرد في إطار فن الشعر ليس شيئا سهلا ,كما يتصور البعض , فالشاعر الذي يعمد إلي ذلك مطالب أن يشعرك في كل لحظة بالشعر والنثر في آن , والشاعر الذي يستخدم آليات السرد في النص الشعري , وهي آليات لا تملك وجودا قائما بذاته , مطالب ـ أيضا ـ أن يكيف هذه الآليات حتي لا يشعر المتلقي بأن ما هو سردي قد أثر علي ما هو شعري , وحتي لا يكون هناك وقوع في قبضة الثنائية الفنية .
والديوان من بدايته إلي نهايته مملوء بالقصائد التي تشير إلي أن آليات السرد لها حضور واضح , مثل قصيدة ( أعمامي ونفر آخرون ) , و ( حكاية قديمة ) , و( وفم المريض ) , و( بقع ) , و( عائدة ) ..........
ولكن الشيء المهم في هذه القصائد ,يتمثل في أن آليات السرد المستخدمة في النص الشعري , لم تفض إلي ترهل بنائي يمكن الوقوف عنده , وإذا كان الشعر قد يستفيد من السرد التفصيلات المثيرة الحية , فإن الشاعر عيد الخميسي , قد عمد إلي اختيار اللقطة الكاشفة , بالإضافة إلي أن سرده لم يكن تتابعيا , ففي أغلب قصائده نجده يعتمد علي آليات تقطع خطية الزمن وتمدده المعهود , لأنه لا يهتم بخطية الزمن أو التمدد المعهود , وإنما ينصب اهتمامه الأساسي علي اختيار لقطة كاشفة تكون وثيقة الصلة بطبقة جيولوجية أو ذاكرة محددة لهذا الحي , ففي قصيدة ( راعية ) :
الراعية التي تسوق غنمها علي مهل وهي عائدة قبيل المغرب
بقربة شبه فارغة وعصا وكل ما يلزم لزى راعية عام 73 ه
في المشهد الذي سارع لالتقاطه تجار صور جائلون
لم يصلهم ضيق الراعية من رائحة ملابسها
تأففها ...ألم قدميها المشققتين وجوع بطنها
أو أنهم قاموا بحذف هذه العناصر
نجد أن المتلقي سوف يلاحظ للوهلة الأولي الإصرار علي تفصيلات حية , تأتي كاشفة عن طبيعة الصورة , وهناك تركيز علي تفاصيل بسيطة المقصود منها إكمال عناصر الصورة , ولكن المهم- في ذلك السياق ـ أن الشاعر لا يعتمد سردا تراتبيا , فهناك حالة من الارتداد والاستباق في آن , لتقديم عوالم مختلفة , فالراعية بلحظتها الآنية ليست منفصلة عن لحظات سابقة شكلت تأففها وألم قدميها وجوعها , وكذلك المصورون ـ بطبيعتهم ـ يختارون ما يناسبهم , فيحذفون ما يعكر صفاء النموذج أو جمال الأيقونة .
فاستخدام السرد في إطار النص الشعري , استخدام محسوب , مرتبط بقدرة الشاعر علي اختيار لقطة كاشفة , وارتباط هذا الاختيار بالتكثيف , حتي لا يكون هناك ترهل سردي,يقضي علي حرارة ما هو شعري ..
وإلحاح الشاعر ـ في هذا الديوان -علي استخدام لغة تتسم بالبساطة وآليات السرد , أثر بالضرورة علي الآليات الفنية , التي يقدم الشاعر من خلالها نصه الشعري , فليس هناك تعمد واضح لخرق نسق المواضعة اللغوية , ولا تقديم استعارات علنية , فالشعرية في هذا الديوان تعتمد علي التعبير البسيط الموحي , الذي يشكل ـ إن استحضره المتلقي ـ ميزة جمالية تقوم علي البساطة والتقرير بعيدا عن الجماليات المقررة والمؤسسة في شعريات كانت تمثل تجليات سابقة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق